البافور: مواطنهم و أصولهم وعلاقتهم بالإمام الحضرمي
تتشكل ساكنة آدرار من فسيفساء بشرية من أعراق وقوميات مختلفة أهمها، مجموعتان: إحداهما من العرب والأخرى من البربر وهم البافور:
إن مسألة الحديث عن أصول البافور والتأريخ لهم تبقى من أعقد المسائل في تاريخ المنطقة مع أنهم ظلوا حاضرين بشكل أو بآخر في الذاكرة والمخيال الجماعي لسكان آدرار، نظرا للوجود الغامض لهذه المجموعة، وعدم ذكر لها في المصادر المكتوبة القديمة أو الوسيطة، ولا تمدنا الكتابات المحلية المتأخرة –التي تعتبر مجرد تدوين للمرويات الشفاهية الأسطورية- بمحددات تاريخية مضبوطة عن البافور الذين ارتبطوا منذ عصور لا تعيها الذاكرة، بأصحاب الكلاب في منطقة آدرار .
ويعتقد الباحث الموريتاني محمدن بن باباه أن البافور ليسوا سوى مجموعة من يهود واد نون ، كما لا يستبعد الناني الحسين أن يكون معظم يهود صحراء الملثمين (البافور) من السكان الملحيين الذين تأثروا بالمهاجرين اليهود فأخذوا عنهم، بالإضافة إلى الديانة اليهودية، تقنيات جديدة لم تكن المنطقة تعرفها مثل زراعة النخيل والري مثل ما وقع لغيرهم من مجموعات البربر التي اعتنقت الديانة اليهودية بعد احتكاكهم باليهود القادمين من المشرق .
و بإمكاننا التعرف على البافور من خلال القبيلة الليبية البربرية المعروفة عند الكتاب القدماء تحت اسم البافار، وكانت نشطة خلال القرنين الثالث والرابع الميلاديين، ثم أنها هاجرت إلى منطقة آدرار فجلبت إليها التقنيات الزراعية، واحتفظت باسمها (البافور)
لقد ظلت أصول البافور محل غموض كبير، لتضارب الروايات المحلية حولها، فأصبحوا من منظور تلك الروايات رمزا للمجهول المنبوذ، حيث أن سكان المنطقة يعيدون كل الآثار التي لا تعود إلى الزنوج أو العرب إلى البافور بل إن أصحاب تلك الروايات جعلوا من تسمية البافور مدلولا يشيرون من خلاله إلى سكان شمال غرب الصحراء القدماء الذين لا يعرفون عنهم شيئا، وإذا كانت الروايات المحلية مختلفة، بل ومتناقضة في عرضها للمعلومات القليلة المتعلقة بالبافور، فإنها تجمع على أنهم لم يكونوا زنوجا وإن كانت قد ظلت عاجزة عن تحديد الجنس البشري الذي ينتمون إليه، مكتفية بتحديد لون بشرتهم الذي يتأرجح ما بين البياض والحمرة.
أ- مراكز استقرار البافور ومواقعهم في آدرار:
يبدو أن البافور انتشروا في البداية وبشكل مركز في منطقة آدرار، حيث شملت المواقع التي استوطنوها أماكن متعددة ومتفرقة داخل جبال آدرار مثل:
نواومن، آمدير،وتوجونين الكبير، وتونكاد، وتنوشرت ولكصيبة، ونجاتو، ومواقع أخرى يصعب حصرها، هذا بالإضافة إلى وجود مواقع لهم في تكانت خلال الفترة نفسها مثل إن تلميت ومطماطة .
وعموما فإن البافور نزحوا إلى إقليم آدرار في عهد مبكر فأقاموا فيه حواضر مستقرة جل اعتمادها على الزراعة وقيل هم أول من أدخل البلاد النخيل والموسيقى والخيل وأسسوا فيها المدن مثل آزوكي مدينة الكلاب، وقد أطلق اسمهم على الإقليم كله، فيقال بلاد البافور أو سكان البافور ويتحدث البرتغاليون (GOMES DIego) عن جبل البافور ، وإن كان البافور يهودا فيمكن أن يكونوا قد بقوا في المنطقة إلى زمن متأخر نسبيا نظرا لوثيقة غير مؤرخة وجدت في تكانت، وسقط تاريخ الوثيقة كما أن الرحالة الفرنسي فينصاه ذكر أن يهوديا هو الذي أعطاه معلومات عن مدينة أطار التي نصحه الأمير(أحمد ولد عيدة) بعدم دخولها ، كما ورد ذكر للبافور مع المغافرة في حرب شرببه في القرن 11هـ، نختير البافوري، والفاضل البافوري …
ب- آزوكي: الحصن: أوعاصمة المرابطون
تقع آزوكي في حدود ولاية آدرار قرب مدينة أطار بين جبال آدرار على بعد 10 كلم وتمثل آزوكي محمية طبيعية لوجودها بين ممرين جبليين، فم جول شمالا وفم شور شرقا، وبمحاذاتها لوادي تيارت المخضوضر والذي يوفر الماء طيلة أيام السنة للعباد والدواب، والذي تحيط به آلاف النخيل من باسقات التمور ، نشأة هذه الحاضرة حسب روايات يلفها الغموض ومشوشة حول وصول تلك المجموعة – قبل الإسلام- وقبائل البافور على غرار حواضر آدرار لا يستقيم لهم نعت في تلك المرويات على حال، فهم يهود أو زنوج أو بربر، مع أن البكري ذكر أن حصن آزوكي بناه يانوا ابن عمر أثناء تولي أخيه يحيى بن عمر لزعامة المرابطين 446هـ – 1054م ، إلا أن روايات التأسيس الشفاهية تذكر أن أبى بكر بن عمر أخبر أن هناك قرية عظيمة تسمى مدينة الكلاب، لدى سكانها الكفار البافور كلاب “أطواريس ” مفترسة تحرس المدينة، فتوجه إليها أبو بكر بن عمر بجيش كبير ومعه الإمام الحضرمي فأرسل إليهم البافور كلابهم المفترسة وأمرهم الإمام الحضرمي بالرجوع قائلا: ارجعوا، فطاعت له الكلاب، وأباد المرابطين البافور وكلابهم واتخذوا من آزوكي حاضرة لهم ، وتبقى الوظيفة الحربية هي مرتكز آزوكي الحصن، فقد أمر عبد الله بن ياسين _ المرشد الديني للمرابطين – أمر الأمير يحي بن عمر أن يتحصن بجبل لمتونة، جبل آدرار ، إلا أن وجودها على الطريق اللمتوني يبعث على افتراض صبغة تجارية لآزوكى ، إلا أن وصف الإدريسي لها في القرن 6هـ/12م ، لا ينطبق عليها.
ويتحدث عبد الودود ولد أنتهاه عن الحرب مع البافور في آزوكي والإستلاء على واحاتهم من قبل أبناء شمس الدين وما صاحب ذلك من احتكاكات فيما بعد مع سدوم جد الطرشان، وفضلا عن نعت عبد الودود ولد أنتهاهه لنخيلهم بالرداءة وقلة الإنتاج مما يفسر اهتمام أبناء شمس الدين بتطويره في مراحل لاحقة، وهذه القصة تتطابق في مجملها ومراميها مع قصة محمد فاضل بن شمس الدين وشعب البافور في تونكاد، وتختلف في الطريقة التي سوي بها الخلاف، وتقول قصة محمد فاضل أنه حين وصل إلى هذه المنطقة أرسل إبله إلى ساقية تونكاد فأعترضها البافور ومنعوها الماء وتحرشوا برعاتها وقتلوا منها جملا بسهم وغضب محمد فاضل ودعا عليهم وجفت الساقية ، وحين شاهد البافور هذه الكرامة عن الرجل ذهبوا إليه واصطلحوا معه على تقاسم تونكاد.
ج) ثقافة البافور:
بغض النظر عن أصل البافور هل هم يهود أو إباضيون زناتيون أو بربر أو زنوج، فإن الروايات الشفوية والأساطير التي نسجت حول أبناء شمس الدين ونزولهم إلى أطار وأوجفت، والتقائهم بالبافور وإبادتهم في آزوكي، والتفاهم معهم في تونكاد ومحاولة طمس دور تلك المجموعة التي انصهرت داخلهم.
فقد وظفت رواية البافور من طرف ابناء شمس الدين، في آزوكي، وتونكاد، بشكل يسمح لهم تقاسم تلك المناطق مع اديشلي، وتتبعا لهذه المجموعات من خلال ثقافتها التي تُظهر أن الكثير من ثقافة المنطقة تتشابه مع ثقافة البافور، كما ترويها التقاليد وكما تدل عليها بعض الشواهد المادية والنشاطات الاقتصادية، فإن ثقافة البافور ترتبط بالمواقع المميزة ونمط الحياة الإنتاجية، وترتبط في آدرار بالعيون التي تنبع من المرتفعات أو في الأودية العميقة ، وتتميز المنطقة بمساكن مبنية بالحجارة وبمدافن ذات نصب أحيانا، وغالبا ما تكون بجوارها أراضي زراعية، (لكراير) وبعض النخيل المغروس في أماكن حصينة قرب عيون جارية، وتوجد أماكن عالية دفاعية عالقة بالسفوح الصخرية وعلى قمم الجبال، وهذه الأماكن التي يعتقد أنها بافورية تكون دائما مقسمة بين إدشلي و اسماسيد من جهة وبين تيزكة و اسماسيد من جهة أخرى، ومن أهم هذه الأماكن أمساكة حيث وجدت كتابات بربرية، وآزوكي حيث توجد بركة أم لمحار التي يعتقد أن نخيل أبناء شمس الدين أخد منها أول الأمر ، وأكني أتويزكت، تزكين، تزكرز، ترون، كنوال، تنير، تيزنت، تيارت، أمكجار آمدير… وإنتماتل التي توجد بها مقبرة وأطلال قرية شامخة على الجدار الصخري ، تنمشوط، وقنمريت التي وردت عند الإدريسي بنفس اللفظ ، كما أن الواد لبيظ، كان منطقة استقرار للبافور، مثل تونكاد ، ولكليتات ووكشضة، وأجويلات وأنواكومن حيث توجد واحات قديمة يقال إنها من أقدم واحات آدرار.
كل ذلك حدث ويحدث من دون معرفة هل سكان البافور القدماء اندمجوا تحت مسميات جديدة في تلك المجموعات الحديثة أم أسسوا قبائل أخرى والسؤال المطروح كيف وصلت إلينا هذه المسميات التي هي في الأصل مسميات بافورية؟
و البافور أهل زراعة حسب نفس الروايات وقد جلبوا تقنيات جديدة مثل حفر الآبار والري وزراعة النخيل مع أنهم يزاولون تربية الماشية باستثناء الإبل، وكذلك الجني والقنص كنشاطات مكملة، وهذا يتطابق مع نمط السكان المجتمعين في قبائل محلية، ويزرعون مناطق غنية بالآثار الأركيولوجية التي توحي بإقامة طويلة العهد لساكنة زنجية قديمة مرتبطة بالبافور، ربما تكون تركت المنطقة وتسكن ضمن الشعوب الزنجية في الجنوب على ضفاف نهر صنهاجة، ويذكر المؤرخ عبد الودود ولد انتهاه عن رواية شفوية أن تاجرا من اسماسيد هو المختاربن أحمد بن الأمين الشمسدي وكان من المعمرين ذهب إلى كيهيدي والتقى أحد عناصر هذه المجموعة وحدثه عن لكراير في آدرار وخاصة يقرف وأكدس واتويرم وانزدان وبيئر عند تنامسن…وذكر له أن هذه أرض أجداده ، والصورة التي يمكن تكوينها عن البافور هي أنهم أناس شيدوا بعض الملاجئ الحصينة التي كانت تستخدم كمخازن غذائية (إويلي ) إلى جانب دورها في حماية الناس والماشية .
د) الإمام الحضرمي وعلاقته بالبافور ومدينة آزوكي:
المشكلة الكبرى التي تعترض من يتناول شخصية الإمام الحضرمي ومدينة آزوكي، هي صعوبة التوفيق بين الروايات المتداولة في آدرار من جهة والمصادر التاريخية العربية من جهة أخرى، والبداية من اسم الإمام الحضرمي في الروايات الاطارية، الى أبوبكر بن الحسن المرادي الحضرمي عند المصادر العربية ، كان رجلا نبيها فطنا وعالما بالفقه وإماما في أصول الدين، وله في ذلك تآليف، وكان أول من ادخل علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى، قدم إلى الأندلس وأخذ عنه أهلها، كان في أغمات عندما قرر ا بوبكر بن عمر العودة إلى الصحراء فندب ابوبكر إلى التوجه معه وولاه القضاء في آزوكي، ومات بأركي. في صحراء المغرب فخلفه ابو الحجاج في علوم الإعتقادات ، فكانت المصادر والمراجع العربية تذكر الإمام و قدومه إلى الأندلس والمغرب وذهابه مع الأمير إلى الصحراء وتنصيبه قاضيا في آزوكي، أما الروايات المحلية فتجعله في مصاف الأولياء وتجعل منه بطل ملحمة يتخذ فيها أسماء كثيرة لم ترد عنه في المصادر والمراجع العربية، وتقول الرواية الأسطورة التي كتبت متأخرة بعدة قرون، أن الاتصال بين الإمام والأمير ابوبكر بن عمر الذي لم يزل يفتح البلاد طولا وعرضا إلى أن بلغ أرض آدرار، وبلغ أزقا التي هي أعظم ما في المغرب واحصنه انكسرت جيوشه، ولم يزل يغزوها وهي تكسر جيشه إلى أن لقي بعض الأولياء شكى إليهم ما حل به فأشاروا عليه بأن يأخذ وليا ويجعله في مقدمة عسكره، وعين له الشيخ الإمام الحضرمي ، وتتابع الرواية الأسطورة وتقول أن الشيخ كشف له أن العدو لهم فتاة ترى من نحو يومين، فأمر الجند أن يقطع كل منهم غصنا ويضعه على رأسه، وحين نظرت الفتاة قالت لقومها أنها رأت الشجر يتحرك، فاشتغلوا بسد طريق فم جول، وحين وصل الجيش إلى آزوكي والشيخ على رأسه، وجه إليه البافور كلابهم فأمرها الشيخ أن تعود على أصحابها فطاعت له، وكان ضمن الجيش البافوري شيخ أعمى مسلح بقوس فطلب من ابنته أن توجهه على القائد الشيخ الإمام الحضرمي الذي أصيب فقتل ، وحين أستشهد تطاير دم الأولياء على الأرض والقى الله الرعب والهزيمة على كل من عليها من الأعاجم، وفتحوا بلاد السودان حتى بلغوا البحر فقطعوه وبقيت الأرض للعرب، وبما أن الإمام الحضرمي توفي في آزوكي حسب الروايات وحسب المصادر العربية 489هـ ، ولم يوجد له قبر يضمه، فإن الروايات الأسطورية الأطارية، نسجت قصصا عن اكتشاف هذا القبر في آزوكي، والتي تدخل في إطار التأسيس، وأول اكتشاف حسب هذه الروايات تم من قبل رجل يدعى محمد (الإمام المجذوب) بن أحمد بن احسين بن ابو اسحاق بن أحمد بن شمس الدين، ويعود أول ذكر لهذه القصة إلى بانم بن أحمد قاضي اسماسيد، وقد مرت هذه الرواية بعدة تغيرات في الفحوى فبعد أن أكتشف قبر مجهول لصالح مشهور توفي في آزوكي، وبعد الإكتشاف وما صاحبه من خوارق نام المجذوب فحلم في نومه بالرجل الذي كشف عن موقع قبره، وبعد هذه الرؤيا أخذ المجذوب يحس بالحمي وورمت يده، ولكي يخفف من الآلام بدأ في الكتابة بإملاء من هذا الرجل الصالح، وهذا الصالح هو الإمام الحضرمي حسب القاضي بانم، ويؤكد ابراهيم الشهرزوري المعاصر للحدث أن المجذوب تلقى هذه العلوم عن الإمام الحضرمي دون الحديث عن اكتشاف القبر ، وستختفي هذه القصة لصالح قصة أخرى أكثر دقة بطلها هذه المرة عبد الفتاح ولد أعبيدن ، وتقول القصة الأخيرة أن عبد الفتاح رأى في منامه الإمام الحضرمي وأمره أن يذبح كبشا أبيض فوق جبل أنطرزي على بعد 2كلم من المكان الذي سيسقط فيه الكبش، والذي هو مكان قبره ، والمكان الذي اكتشفه عبد الفتاح هو المكان الوحيد المعروف إلى الآن بقبر الإمام الحضرمي، ولم يدعى عبد الفتاح أنه لقي الرجل بعد ذلك، وهذا التاريخ أيضا مازال محفورا في مخيلة بعض شيوخ اسماسيد ، وبنوا على ضريحه من الحجارة، و دارا للزيارة قريبة منه وحفروا بئرا يقال لها عين الزيارة بجانب الضريح وغرسوا النخيل ، و يبدو أن هذه القصص تندرج ضمن صراع أبناء شمس الدين على الأرض وإحياءها.
د: سيد محمد ولد جدو