عام

الحركة المجذوبية في أطار النشأة والتطور

الحركة المجذوبية في أطار النشأة والتطور

الحركة المجذوبية في أطار النشأة والتطور
1- ظهور التيار الباطني في الصحراء الشنقيطية:
لقد كان الخطاب الفقهي مسيطرا على الحياة الفكرية والدينية في عموم حواضر الساحل الصحراوي ومنطقة السودان الغربي، خلال عهد مملكة الصونغاي الإسلامية، وذلك بفعل تعاظم نفوذ الفقهاء ووقوفهم بصرامة أمام كل النزعات الفقهية التي تخرج عن نصوص متون المذهب المالكي.
ويرجع ترسخ الخطاب الفقهي وسيطرة الفقهاء على الحياة الفكرية في المنطقة إلى عوامل عدة من أهمها: عامل الالتزام بالإسلام السني المالكي الذي أرسى دعائمه المرابطون في الصحراء، وبما أن المذهب السني المالكي يعتبر الاحتياطي في أمور الدين وسد الذرائع من مبادئه الأساسية على الصعيد الفقهي، فإن ذلك أدى بالفقهاء إلى لعب دور مهم في تنقية الدين وممارسات المجتمع من الشوائب المشينة التي تخالف روح الإسلام والالتزام به كأداة بناء وتقدم بشري .
ونتيجة للمكانة التي كان الفقهاء يحتلونها عند حكام السلطنات الإسلامية في الغرب الإسلامي فإنهم قد مارسوا أدوارا متعددة وذلك بحكم تكوينهم الديني وخبرتهم فأنتجوا خطابا سياسيا فقهيا لتبرير صلاحية السلطة وضرورة حمايتها، وقد عمل كثير منهم على بلورة المبررات السياسية المعززة لسلطة الملوك، ومنهم أيضا من ساهم في نقد ممارسات الحكم وسلط الأضواء على تجاوزاتها الدينية، وبحكم المهام التي كانت موكلة في العادة للفقهاء باعتبارهم متبحرين في الشئون الدينية، فقد أنتجوا خطابا في السياسة يعبر بجلاء عن الصلة الوثيقة بين الشأن السياسي والشأن الديني .
ولم يقتصر الخطاب الفقهي الذي أنتجه الفقهاء على الجانب السياسي بل شمل جوانب عدة اجتماعية واقتصادية، فحوت الفتاوى الفقهية كخطاب ديني يعالج كافة الإشكالات التي يطرحها أفراد المجتمع.
وأثناء المقارنة بين الفقه والتصوف يظهر أحمد بابا التنبكتي العلاقة بين هيمنة الخطاب الفقهي وفاعليته الاجتماعية، حيث يعتبر الفقه علما يجر نفعا إلى عامة الناس في حين أن علم التصوف، حتى ولو وصل بصاحبه إلى أقصى المراد وهو مقام الولاية، فإن منفعته خاصة بالسالك نفسه لا غيره.
وكان في هذا الخطاب القبل الصوفي نوع من “قوت القلوب” لإشباع النهم الروحي للمؤمنين مع استمرار السيطرة للتوجه الفقهي المعتمد على كتب الفروع، وكان لكتاب الشفاء للقاضي عياض اعتبار خاص في هذا المجال من بداية القرن الهجري التاسع(ق 15م)على الأقل، فانتشر في المساجد الصحراوية سرده تبركا به وبما فيه من استحضار لصفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكيرا بحقوقه ،وفي هذا التوجه إلى التبرك إثراء روحي للحياة الثقافية بالمدن التجارية الصحراوية، وهي حياة كان مدارها الأساسي فقه المعاملات، غير أن الفقهاء لم يكونوا يرضون أن يتبلور هذا التوجه في شكل تنظيم صوفي حسب النموذج الطرقي المعروف.
فعندما انتشرت الطريقة الخلوتية في منطقة أكدز خلال القرن العاشر الهجري(16م)، اعتبرها الفقهاء بدعة وأفتوا بجواز قتل الشيخ الذي أدخلها البلاد وهو محمود البغدادي فقتله أمير أكدز، أما أتباع البغدادي فيرون أن الفقهاء إنما أغروا به السلطان حسدا له بعد عجزهم عن” مناظرته لأن له تطلعا في المذاهب الأربعة وهم لا علم لهم إلا فيما طالعوه من مذهب الإمام مالك بن أنس، وإنما قلنا الحسد لأنهم لما كانت الدولة لهم في الظاهر مع الولاة والأمراء، هذا بالقضاء وهذا بالفتوى، وهذا بالتدريس أوجب لهم ذلك الحرص على الدنيا”.
وقد واصل كبار الفقهاء في الصحراء الشنقيطية، مثل عبد الله البوحسني وابن الأعمش وابن الهاشم في مرحلة أولى، وابن بونا وابن الفاضل في مرحلة ثانية، معارضتهم للتيارات الباطنية والصوفية وفاء لتقليد ورثوه عن سلفهم من العلماء الذين كانوا أصحاب الحل والعقد في المدن الصحراوية الكبرى .
وعلى الرغم من الدور الذي قام به الفقهاء من أجل بلورة الخطاب الفقهي كخطاب إسلامي مسيطر على الساحة الفكرية والسياسية في الغرب الإسلامي فإن متغيرات جديدة ستطرأ وتمهد لظهور خطاب إسلامي جديد تمثل في بروز التصوف الطرقي .
2 الإمام الأسطورة وبداية الباطنية في آدرار(أطار):
محمد بن أحمد بن أحسين: (الإمام المجذوب): (ت 1098هـ 1687م)
هو العالم الفقيه محمد بن أحمد بن أحسين بن أبي إسحاق بن أحمد بن شمس الدين ولد في بداية القرن الحادي عشر وهو أحد حجاج اسماسيد، الذين جاءوا بحجر من الحج وضع في أساس المسجد العتيق بأطار خلال القرن 11هـ، وكانت رحلته إلي المشرق رحلة علمية، وقد إتفق المؤرخون على أن الأجزاء التي وجدت في أطار من آثاره العلمية، والتي عرفت باسم كتاب المنه، ويعتقد البعض أنه تلقاه عن الامام محمد بن الحسن الحضرمي بعد موته، وهو ما يؤكده مخطوط ابراهيم الشهرزوري ، ووجدت من كتاب المنة عدة نسخ عند اسماسيد جلها بخط العالم بانم.

مؤلفاته:
– كتاب المنة : هو مجموعة مقالات مفصلة مبدوءة كلها بالحمد لله والثناء عليه، ولا إله إلا الله، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو مؤلف ديني مرقم بالتضرع والصلوات وطلب الرزق السماوي ودفع القحط، كما أنه يتناول الكثير من المواضيع، معرفة الله، العلوم الإنسانية، المعارف الشرعية، المباحث العقلية، مقولات الفلاسفة، وآراء المتكلمين، وأطروحات الساسة والمفكرين، بالإضافة إلي رؤيته الإصلاحية ، وقد ذكر الدكتور ددود ولد عبد ال، أنه خاص بالأدعية ولا يخلو بعضها من نبرة شيعية، ونفس مهدوي ، ويعتقد عبد الودود ولد الشيخ أن الحسبلة ( حسبنا الله ونعم الوكيل) تذكر دائما عند المسلمين بعد الإعلان عن خبر مفجع أو كارثة، وهذا هو الذي جاءت فيه مبادرة المجذوب في جو يشير إلي نهاية العالم، وهذا مقرون بجفاف مخيف وغياب السلطان وانتشار السيبة والسعي وراء إجاد إمام عادل، جعل المجذوب يجعل من كتابه نوع من الأدعية والاستسقاء.
“…قال القاضي بانم هي علوم أظهرها الله على يد الشيخ الصالح الأمي محمد المجذوب ابن أحمد ابن احسين السمسدي الأطاري وكان من أمره انه يأتيه في المنام بكيفية يتلقي منه بها العلم فيفيض عليه من العلوم أسرارا ربانية وعجائب لدنية سعد بها من سعد وشقي بها من شقي لجحده الحصر حتي جمع من ذلك كتابا جاعلا للحوقلة والحسبلة والبياضات محل الابواب في عادة المؤلفين… تبلغ الستة أو الاربعة كما يروي ذلك من أدركنا سوي اننا لم يبق بأيدينا منها إلا جزءان… .

وقد بدأت النزعة الباطنية في أطار متزامنة مع ظهورها في القبلة ومحنة العلماء في الجنوب، وقد جسدت بروز تيار فكري جديد مغاير ومعارض للقديم التقليدي ، فكان عصر الحركة المجذوبية في أطار اتسم بعدم الاستقرار والفوضي طالت مختلف جوانب الحياة في المنطقة، وبدأت البني السياسية والاجتماعية والاقتصادية في التفكك، وإعادة البناء، شمالا (المغرب الأقصى بعد وفاة أحمد المنصور الذهبي 1012هـ) والجنوب الشرقي (مالي بعد سقوط مملكة السنغاي وما صاحب ذالك من قتل للعلماء وفرار الكثير منهم) وعجزت المنطقة عن صد الزحف الأوربي، لتظهر الزوايا الدينية في مواجهة هذا الزحف، فكانت حصنا منيعا، مثل: الزاوية الدلائية في فاس ومكناس وسلا، وزاوية أبي محلي في سجلماسة ودرعة وتاردانت وحتي مراكش، الزاوية السملالية مدينة إليغ سنة 1021هـ، وكان لهذه النجاحات في الشمال صدي في الجنوب ما لبث أن تجسد في حركات تحمل شعارات إصلاحية، مثل: حركة الإمام حداحدا في الشرق، وناصر الدين في الجنوب، و الحركة المجذوبية في أطار.

وهذه الحركة تتطلب دراسة موضوعية ومتأنية ومغايرة للدراسات السابقة وتأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة والعوامل السياسية والاقتصادية التي أحاطت بنشأة الحركة، بالإضافة إلي حقيقة الاتصال بالخضر عليه السلام أو بالإمام الحضرمي أو ادعاء المهدوية .
إلا أن غياب المصادر المكتوبة والمحايدة استدعت منا التحليل الموضوعي من أجل فهم ما جري في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ أبناء شمس الدين، ومالها من تأثير على مجريات الأحداث اللاحقة من سجال فكري وتنافس على المكانة الروحية بين زوايا المنطقة (تركز اسماسيد ادوعلي ولقلال…) والاستقطاب بين الحاضرتين أطار و شنقيط، وقد حصلنا على مخطوط (إخبار الأخيار بأجوبة سؤالات أهل أطار) الدي كتبه الإمام الفذ ابراهيم حسن الشهرزوري الكردي مفتي المدينة المنورة الذي عاصر الحدث والمخطوط عبارة عن أسئلة من علماء أطار، عن كتاب المنة الذي كتبه الإمام أحمد بن أحسين المجذوب، وأجاب عنها العلامة الشهرزوري بجوازه الأخذ عن ميت حيث قال أن ما قرأه من تلك الكراسة موافق للكتاب والسنة وسرد جملة من الأدلة الشرعية على ذالك ،.
يبدو أن المجذوب كان منظرا لحركة إصلاحية ، قامت في بداية تأسيس القبيلة وبدأت بجلب حجر ووضعه في المسجد وما لهذه الحركة من دلالة معنوية، وبعد رجوع الحجاج من الحج بدأ المجذوب في كتابة دستور ينظر من خلاله لقيام سلطة عادلة، من خلال العلوم التي أخذ في المشرق من فلسفة ومنطق وعلم الكلام، ويبدو أنه كان هناك طرفان يتصارعان على الزعامة داخل الجماعة، وهذا ما نستشفه من كتاب المنة، وكتاب عبد الودودولد أنتهاه نزهة الأخيار في الغامض من الحروب والأخبار.
والمجذوب يبدو أنه في الطرف المعارض للحكم حيث يحثهم على العدل والحكم بشريعة الله في كتابه، لكن الأوضاع السيئة والمجاعات والسيبة هي كل ما يؤرق المجذوب في كتابه، وأبدع في إعطاء الحلول النظرية والعقلية والشرعية…
وبعد ظهور كتاب المنة بدأت الأسئلة تطرح عن هذه الحركة الفكرية السياسية العقلية التي نظر لها الإمام المجذوب.
وبدأ الحديث عن أن المجذوب أمي لا يكتب ولا يقرأ، لكنه قام برحلة إلي المشرق للحج والتعلم، والدولة الإسلامية في المشرق في تلك المرحلة وصلت مستويات متقدمة في جميع العلوم، ويمكن أن يكون الرجل أخذ خلال هذه الرحلة الكثير من العلوم خاصة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، لكن المجذوب ادعي أنه أخذ عن ميت وهو الإمام الحضرمي المدفون في آزوكي وهو ما يثبت جوازه مخطوط إخبار الأخيار الذي يظهر من خلاله أن العلامة ابراهيم الشهرزوري يعرف المجذوب شخصيا من خلال الثناء عليه حيث يقول: ” كتبه العبد الصالح المقبل الناهض بهمته للكمال الأتم الشيخ محمد بن حسين بن ابي اسحاق بن احمد الأطاري” .
ولكن كثير من علماء الشناقطة شددوا النكير في قوله الأخذ عن ميت واعتبروا أن هذا القول كفر وزندقة، وقد جاء ضمن الأسئلة التي أرسلت الي المشرق أن المجذوب انكر عليه الكثير وقبله قليل، واجاب الشهرزوري بأنه لا حجة للمنكرين وبرره بالأدلة الشرعية والعقلية ، وكان ممن أنكرها عالم شنقيطي: الطالب محمد المختار بن الأعمش ، وكتب في ذلك نظما ونثرا، وأبو بكر الهاشمي القلاوي…وقد جرت مع المنكرين سجالات فكرية .
وهذا يستدعي منا التطرق لقصة اكتشاف ضريح الإمام الحضرمي بآزوكي، حيث ذكرت بعض الوثائق أن المجذوب طلب منه أخ في الله زيارة صالح مدفون في تيارت مجهول المحل فأنشرح صدره لذلك… والفكرة غير مستساغة عند البعض إلا أنها الوحيدة للإشارة إلي ضريح هذا الإمام المرابطي، وكان هذ الأخ يصحب المجذوب للاستسقاء في زمن القحط والجفاف، وحين وصلا موضعا فيه اثني عشرة حجرا وفيه شجرة ، فوقع في نفسيهما أن ذالك هو مكان القبر، وذبحوا عنده وارتفع دم الذبيحة، ثم نام المجذوب ورأي في منامه صاحب القبر وهو ينفث في صدره ريحا باردة فصار من ذلك تأخذه الحمي وتنتفخ يده حتي تكتب ما يملي عليه صاحب القبر “إلي أن أجتمع من ذلك ستة أجزاء متوسطة، سوي اننا لم يبق بأيدينا منها إلا جزءان…”
ويذكر الفقيه المؤرخ ولد أنتهاه عن الرواية الشفوية أن صاحب الإمام المجذوب الصالح الذي رافقه للبحث عن القبر المذكور رأي في منامه قبل ذلك صاحب القبر فطلب منه أن يأخذ معه الإمام المجذوب لينقل عنه بعض العلوم التي توفي عنها قبل أن ينشرها، وأمره أن يأخذ معه كبشا أبيض اللون ويذبحه على هضبة انطرزي ويتركه يترنح وحيث استقر ميتا فذألك موضع القبر، يبدو أن القصة خلطت بين حدثان متباعدان في الزمن، فالقصة الأولي عن المجذوب والإمام الحضرمي حدثت في بداية القرن الحادي عشر أما قصة الثانية عن عبد الفتاح ولد أعبيدن والتي أثبتت وجود القبر إلي اليوم ويفصل بين القصتين قرن ونصف من الزمن حسب الوثائق ومنها وثيقة وكالة على بعض العقار في أوجفت ، وجاء في مخطوطة عتيقة لبعض علماء السماسيد أن الإمام المجذوب نام فرأي في نومه صاحب القبر وهو ينفث في قلبه ريحا باردة فصار من ذلك الوقت تأخذه الحمى وتورمت يده حتى يكتب ما يملي عليه صاحب القبر، إلي أن اجتمع من ذلك ثلاثة أجزاء متوسطة استمسك بها البعض وأنكرها كثيرون ، وكان ممن أنكرها عالم شنقيطي: الطالب محمد المختار بن الأعمش ، وكتب في ذلك نظما ونثرا، ثم أن الكتاب عرض على علماء جامع الأزهر والحجاز فكتب في تسليمه برهان الدين بن الشيخ بن محمد البرماوي الشافعي، مدرس بالجامع الأزهر، مانصه: قد إطلع الفقير على مواضع من ذلك الكتاب فوجدها موافقة للكتاب والسنة والجماعة ولا يتوقف حصول العلم على تعلم الحي بل يكون من ميت كما وقع لذلك الرجل الصالح ، وعلى بن المرحوم نور الدين الشافعي، شيخ الافتاء والتدريس بالجامع الازهر.
ومن علماء الحرمين: ابراهيم بن الحسن بن شهاب الدين السهوردي المدني الشافعي، واحمد بن حمدان الكساني .
وقد بحثنا عن هذه الأسماء التي ذكر أنها كتبت في تسليم كتاب المنة:
ا- ابراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكوردي الشهراني الشهرزوري الكوراني: ولد سنة 1025هـ، توفي بالمدينة المنورة ودفن بالبقيع سنة 1101هـ، عالم جمع بين العلوم العقلية والنقلية، وله عدة مؤلفات.
– اخبار الأخيار بأجوبة سؤالات أهل أطار.
وقد حصلنا على نسخة منه من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قسم تصوير المخطوطات، ومن خلالها يتضح أنها أسئلة وجهها أهل أطار(أبناء شمس الدين) عن كتاب المنة، ويفهم من هذه الوثيقة أن المجذوب التقي هذا العالم قبل ذلك والدليل ثناؤه عليه وعلى صلاحه وعلمه ثناء من الالتقي بالشخص لا من سمع عنه، لأن العلماء لايطلقون الأوصاف جزافا قال: “(…) ناولني كراسة من الجزء الذي كتبه العبد الصالح المقبل الناهض بهمته إلي الكمال الأتم الشيخ محمد ابن أحمد بن بن أبي إسحاق ابن أحمد الأطاري من إلقاء ولي الله العارف محمد بن الحسن الحضرمي المدفون في البلد المسمي بأزوقي” بل قد يكون أخذ عنه الكثير من العلوم العقلية والنقلية.
وأكدت هده الوثائق (مخطوطة عتيقة لبعض علماء اسماسيد، إخبار الأخيار ابراهيم الشهرزوري، نزهة الأخيار عبد الودود ولد أنتهاه…) على أن هذه العلوم مأخوذة عن الإمام الحضرمي قاضي المرابطون المتوفي 489هـ، وهذه الادعاءات قامت بدورها في تغيب تاريخ المجموعة من الثقافة العالمة للمنطقة وطمس دور علمائها وجعلهم أصحاب بدع وخرافات، لكن العلامة ابراهيم الشهرزوري نفي هذه الخرافات والبدع، بثنائه الآنف الذكر على علماء اسماسيد في تلك الفترة وأنهم موافقون للكتاب والسنة حسب تعبيره، ومن أدلته: ” لا حجة للمنكرين تامة في ذلك فهذا كلام مجمل ينكشف بعد بيان حقيقة الموت، فأعلم أن حقيقة الموت ليس انعداما للروح وإنما مفارقة الروح للبدن ولو كان انعداما للروح لم يظهر فائدة قوله تعالى:﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[ آل عمران: 169]”
لكن ابراهيم الشهرزوري والمجذوب ينحدرون من نفس المدرسة، ولذلك ظلت الخرافة مسيطرة على القصة واكتشاف القبر والنقل عن ميت ونشر علومه التي مات ولم يوصلها، وعلى شخصية الإمام المجذوب ومجموعته، وترسبت في الذاكرة الجمعية وحالت دون النظر إلي الجوانب العلمية والثقافية ومقارنة النصوص التي كتب الإمام المجذوب عن واقع أبناء شمس الدين والمنطقة بصفة عامة، والتحولات الاجتماعية التي ظهرت في تلك الفترة ودورها في قيام القبيلة بنشر تعاليم الدين الإسلامي وربطه بالواقع المعيش، وهذه النظرة الضبابية والمشوهة اتجاه الرجل ومجموعته وتراثهم وحركتهم الإصلاحية في نشر السلم الاجتماعي ومحاولة الاستقرار في تلك المرحلة التي تعرض فيها أبناء شمس الدين لمنافسة روحية شديدة من قبل ادوعلي في شنقيط، وتركز في أطار، ومنافسة أخري على الأرض من قبل البافور وبعض افخاظ اديشلي ، وهذا ما نستشفه من الروايات الشفوية والمكتوبة، وهو مايبرر تأسيس قصة اكتشاف قبر الإمام الحضرمي عدة مرات من طرف اسماسيد من أجل إظهار الأحقية في الأرض، وإحياء تراث المرابطون خاصة القضاء الذي كان يمثله الإمام الحضرمي.
و هذه الفترة تميزت بالسجال الفكري الذي وقع بين المتصوفة والفقهاء النصانين، وهذا ماأثري السجال في تلك المرحلة بين المدرستين، وقد أشار إليه الشيخ أحمد بن عبدالله (ابو تاج) في الاسئلة التي قدم إلي ابراهيم الشهرزوري في المدينة المنورة بقوله ” أن العلماء مختلفون فيه فقليل منهم مؤمنون به واكثرهم منكرون” .
وقد حاول الأستاذ السني عبداوه إبراز الروح العلمية والثقافية للحركة المجذوبية ووضعها في سياقها، وبناء فرضيات وربطها بالواقع.

2- آراء بعض الباحثين المورتانين في الحركة المجذوبية:
• الأستاذ السني عبداوه : المهتم بالإمام المجذوب منذ زمن بعيد وقد كان أول باحث يكشف ويدرك قيمة تراث الإمام المجذوب في عصرنا الحاضر، وقام بالكثير من الأعمال، ويعكف الآن علي مدونة الإمام المجذوب ، وقد اكتفيت بتلخيص المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الباحث السني عبداوه في ولاته، عنوانها الإمام المجذوب فيلسوف متصوف ومصلح مغمور، وقد ضمنها صورة الإمام المجذوب في عيون الباحثين المعاصرين من خلال مداخلاتهم في الندوة الدولية التي عقدت في أطار في 30/اغسطس/2002 بمبادرة من بلدية أطار وبالتعاون مع مشروع تثمين وصيانة التراث وجامعة انواكشوط، تحت عنوان: التراث المرابطي والحركة الإمامية في أطار من خلال فكر الإمام المجذوب، أنعشها لفيف من الباحثين.
وقد ذكر السني أن هذه الخماسية التي عنون بها محاضرته لم يكن وضعه لها بهذا التراتب والترابط من قبيل الإثارة والمزايدة أو الإطراء، وإنما هي محاولة منه لإبراز جملة من الحقائق التي ينبغي اليوم ابرازها بعد ماظل الرجل علي جلالة قدره وتميز مذهبه الفكري الصوفي الرائد وطموحه ردحا من الزمن في كنف النسيان أو التناسي المتعمد، مثله مثل الكثير من حلقات تاريخنا، وشخصياتنا العلمية والسياسية والاجتماعية المتنورة التي غابت أو غيبت بفعل فاعل عن الاهتمام العام، فظل ذكرها وتراثها حيا تحت رماد النسيان ينتظر من يكتشفه .
• الدكتور محمدن ولد المحبوب: ذكر أن مضمون الكتاب يعتمد علي ركنين أساسيين أولهما العلوم الإنسانية بمختلف فروعها، وثانيهما المعارف الشرعية والمباحث العقلية، فتقرأ فيه عن مقالات الفلاسفة وآراء المتكلمين وأطروحات الساسة والمفكرين، بالإضافة إلي رؤويته الإصلاحية التي يطمح من خلالها إلي تأسيس مجتمع مثالي يقيم العدل ويجلب الإحسان ويشيع التسامح بين الناس، داعيا إلي نوع من التفاهم والتقارب بين الشعوب، وقد أكد أن القارئ للكتاب يلحظ الاقتباس من الآيات القرآنية، وأن الفلسفة تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن، وأقوال المتصوفين. ففي هذه المدونة الخارقة تتعايش الآيات القرآنية جنبا إلي جنب مع آراء الفلاسفة وأقوال المتصوفة مؤسسة بذلك سبيكة مختلفة الألوان تتراوح بين الفلسفة الإسلامية وبين العقد الأشعري، وتتراوح بين الفخر الرازي ومقولات الجنيد .
• الدكتور محمد يحي ولد باباه: فقد وصف الحركة المجذوبية بأنها صوفية سنية تقع في صميم الرؤية الباطنية .
• الدكتور ددود ولد عبد الله: يري أن المجذوب يأمر أنصاره بالدعاء بأدعية لا تخلوا من نبرة شيعية ونفس مهدوي، وأنهم يضيفوا لمحمد صلي الله عليه وسلم صهره عليا وزوجته فاطمة وابنها الحسين
• الدكتور يحي ولد البراء: شبه الإمام المجذوب بأبي حيان التوحيدي في الشخصية والكتاب الواحد، ثم تساءل لماذا يأخذ الإمام المجذوب من الإمام الحضرمي؟ ولماذا صاغ كتابه بهذا الشكل المختلف؟ .
• الدكتور سيد أحمد بن ناصر: فقد تناول في محاضرته، البعد الفلسفي والكلامي لكتاب المنة من أربعة أدلة علي أن الشناقطة مارسوا التفلسف:
إشكالية المعرفة التي تتدرج في مفهوم النقل إلي العقل إلي الذوق كما في كتاب المنة حيث يقول المجذوب: العقل عقلان كسبي والعقل الوهبي المكتسب عن طريق الذوق.
إشكالية الروح والجسد
إشكالية الجواهر الثلاثة: (الإلاه) والجوهر المادي (الجرم) والجوهر الفرد (الذرة).
الأخلاق السياسية، وتساءل كيف نحدد المذهب الفكري للامام المجذوب؟
• الدكتور الحسن ولد أعمر بلول: فقد شبه الإمام المجذوب بأبي حيان التوحيدي والماوردي، من حيث أن كتابه المنة هو أدب سياسي.
ومن خلال هذه الآراء المختلفة المشارب يستشف من أصحابها اتفاقهم على سعة إطلاع الإمام المجذوب وغزارة علمه، حتي أن بعضهم شبهه بكبار علماء السلف الصالح (ابن حيان، الجنيد) وأهمية موروثه العلمي (كتاب المنة) بغض النظر عن اختلافهم في مصدر هذه العلوم.

د: سيد محمد ولد جدو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى